تعريف المقابر:
المقابر: جمع قبر، وهو مدفن الإنسان، يقال: قَبَرَ الميتَ؛ إذا دَفَنَه، وأَقْبَرَهُ؛ إذا أمَرَ بدفنه، وكذا فسَّر أهلُ العلم قولَه تعالى:{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] أي جعله مقبورًا، أي مدفونًا، ولم يَجْعَلْه مما يُلْقَى على وجه الأرض للطير والسِّباع(2).
فالمقابر شرعًا هي مدافن الأموات، وهي دِيار الموتى ومنازلهم، وعليها تنزِل الرحمةُ على مُحْسِنِهم، فإكرام هذه المنازل واحترامها من تمام محاسن الشريعة الإسلامية.
تعلية القبور
يقول ابنُ القيِّم رحِمه الله: «ولم يكن من هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم تعليةُ القبور ولا بناؤها بآجُرٍّ، ولا بِحَجَرٍ ولَبِن، ولا تشييدُها، ولا تطيينُها، ولا بناءُ القِباب عليها، فكُلُّ هذا بدعة مكروهة، مخالفةٌ لهديه صلى الله عليه وسلم، وقد بَعثَ عليُّ بنُ أبي طَالب رضي الله عنه إلىَ اليمن ألا يَدَعَ تِمْثًالًا إلا طمَسَه، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلا سَوَّاه(3)، فسُنَّتُه صلى الله عليه وسلم تسويةُ هذه القبور الْمُشْرِفة كلِّها، ونَهَى أن يُجَصَّصَ القبرُ، وأن يُبنى عليه، وأن يُكْتَبَ عليه(4).
وكانت قبور أصحابه لا مُشرِفة، ولا لاطئة، وهكذا كان قبرُه الكريمُ، وقبرُ صاحبيه، فقبرُه صلى الله عليه وسلم مُسَنَّم مَبْطوحٌ ببطحاء العرَصة الحمراء لا مبني ولا مطين، وهكذا كان قبر صاحبيه(5). وكان يُعلِّم قبرَ مَنْ يريدُ تعرُّفَ قَبرِه بصخرة(6)»(7).
زيارة القبور:
تُشرع زيارةُ القبور للرجال للاتِّعاظ وتذكُّر الآخرة؛ وذلك لِما ثبَت في الحديث عن بُريدة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلَّى الله عليه وسلَّم: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا»(8). وفي رواية عنه: «قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ، فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ، فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ»(9).
وقد يكون الغرض من زيارة القبور الدعاء للموتى والسلام عليهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبَرَةَ فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ»(10).
زيارة القبور للنساء:
لا خلاف بين أهل العلم على أن المرأة إذا علِمت من نفسها أنها إذا زارت المقابر، صدَر عنها ما لا يجوز من قول، أو فعلٍ، مثل تجديد بكاء ونِياحة، أو حزن، أو تضييع لحق زوجها، أو تَبَرُّج وسُفُور، أو فتنة لها أو لغيرها، أن هذه الزيارة على هذه الوجوه السابقة منهيٌّ عنها (11)، أما إذا خلت الزيارة من ذلك فالقول الراجح أن زيارة المقابر للنساء لا تجوز.
وهو قول في مذهب الحنفية(12) والمالكية(13) والشافعية (14)، وهو رواية عن أحمد، اختارها بعض الأصحاب (15)، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (106)، وتلميذه ابن القيم (17)، والشيخ محمد بن عبد الوهّاب(18)، رحمهم الله تعالى.
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 – عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ(19).
2 – عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ»(20).
السفر إلى المقابر:
يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله(21):
«يُستحب للرجال زيارة القبور وزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام وقبر صاحبيه، لكن بدون شد الرَّحْل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» رواه مسلم في صحيحه(22). وأما شد الرحال لزيارة القبور فلا يجوز، وإنما يُشرع لزيارة المساجد الثلاثة خاصة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى)) متَّفَق على صحته(23)، وإذا زار المسلم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم دخل في ذلك على سبيل التبعية زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وقبر صاحبيه، وقبور الشهداء، وأهل البَقِيع، وزيارة مسجد قُبَاء، من دون شد الرَّحْل، فلا يسافر لأجل الزيارة، ولكن إذا كان في المدينة شُرع له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، وزيارة البقيع والشهداء ومسجد قباء، أما شد الرحال من بعيد لأجل الزيارة فقط فهذا لا يجوز على الصحيح من قولي العلماء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى)). أما إذا شد الرحل إلى المسجد النبوي فإن الزيارة للقبر الشريف والقبور الأخرى تكون تبعًا لذلك، فإذا وصل المسجد صلى فيه ما تيسر ثم زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم وزار قبر صاحبيه وصلى وسلم عليه، عليه الصلاة والسلام، ودعا له، ثم سلم على الصديق رضي الله عنه ودعا له، ثم على الفاروق ودعا له، هكذا السنَّة، وهكذا القبور الأخرى؛ لو زار مثلا دمشق أو القاهرة أو الرياض أو أي بلد يُستحب له زيارة القبور لما فيها من العظة والذكرى والإحسان إلى الموتى بالدعاء لهم والترحم عليهم إذا كانوا مسلمين، فالنبي عليه السلام قال: «زُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ»(24). وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ»(25). هذه هي السُّنَّة، من دون شد الرحل. ولكن لا يزورهم لدعائهم من دون الله؛ لأن هذا شرك بالله عز وجل وعبادة لغيره، وقد حَرَّمَ اللهُ ذلك على عِباده في قوله سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وقال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر، 13، 14] فبَيَّنَ سبحانه أن دعاء العباد للموتى ونحوهم شرك به سبحانه وعبادة لغيره، وهكذا قوله سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]، فسمى الدعاء لغير الله كفرًا، فوجب على المسلم أن يحذر هذا، ووجب على العلماء أن يبينوا للناس هذه الأمور حتى يحذروا الشرك بالله، فكثير من العامة إذا مر بقبور من يعظمهم استغاث بهم وقال: الْمَدَدَ المدد يا فلانُ، أغِثْنِي، انصرني، اشفِ مريضي. وهذا هو الشرك الأكبر والعياذ بالله. وهذه الأمور تُطلب من الله عز وجل، لا من الموتى ولا من غيرهم من المخلوقين، أما الحي فيطلب منه ما يقدر عليه؛ إذا كان حاضرًا يسمع كلامك أو من طريق الكتابة أو من طريق الهاتف، وما أشبه ذلك من الأمور الحسية تطلب منه ما يقدر عليه؛ تبرق له أو تكتب له أو تكلمه في الهاتف، تقول: ساعدني على عمارة بيتي، أو على إصلاح مزرعتي، لأن بينك وبينه شيئا من المعرفة أو التعاون، وهذا لا بأس به، كما قال الله عز وجل في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}[القصص: 15] الآية.
أما أن تطلب من الميت أو الغائب أو الجماد كالأصنام شفاء مريض أو النصر على الأعداء أو نحو ذلك؛ فهذا من الشرك الأكبر، وهكذا طلبك من الحي الحاضر ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى يُعتبر شركًا به سبحانه وتعالى؛ لأن دعاء الغائب بدون الآلات الحِسِّيَّة معناه اعتقاد أنه يعلم الغيب أو أنه يسمع دعاءك وإن بَعُدَ، وهذا اعتقاد باطل يُوجِب كُفْرَ مَنِ اعتقده، يقول الله جل وعلا: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[النمل: 65]، أو تعتقد أنه له سر يتصرف به في الكون فيعطي من يشاء ويمنع من يشاء كما يعتقده بعض الجهلة في بعض من يسمونهم بالأولياء، وهذا شرك في الربوبية أعظم من شرك عباد الأوثان، فالزيارة الشرعية للموتى زيارة إحسان وترحم عليهم وذكر للآخرة والاستعداد لها، فتذكر أنك ميت مثلما ماتوا، فتستعد للآخرة وتدعو لإخوانك المسلمين الميتين وتترحم عليهم وتستغفر لهم، وهذه هي الحكمة في شرعية الزيارة للقبور. والله ولي التوفيق».
المواسم والأعياد المحدثة في زيارة القبور:
ابتدع بعض أهل الضلال بدعًا عظيمة تتعلق بالقبور، سواء كانت قبورًا عامة، أو قبورا خاصة، لبعض من يُسَمَّوْنَ بالأولياء والصالحين، حيث يقومون باتخاذ هذه القبور أعيادًا، ومزارات تُشد إليها الرحال، وتُقصد في أوقات معينة، وهذا لا خلاف بين أهل العلم في تحريمه، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حَذَّرَ أُمَّتَه عن ذلك كما في الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ»(26). حيث نهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره عيدًا، وهو أفضل قبر على وجه الأرض، فقبر غيره من باب أَوْلَى بالنهي كائنًا من كان(27).
وإنما جاء النهي والذم لهذه المواسم والأعياد المحدَثة لما تشتمل عليه من المفاسد العظيمة في الدين، من الصلاة إلى القبور، أو الدعاء عندها، أو الطواف بها، أو غير ذلك من البدع والمحدثات، قال ابن القيم رحمه الله: «… ثم إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله تعالى، ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله تعالى، وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك، ولكن ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلام، فمن مفاسد اتخاذها أعيادًا الصلاةُ إليها، والطواف بها وتقبيلها، واستلامها، وتَعْفِير الخدود على تُرابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصرَ والرزقَ والعافيةَ وقضاءَ الديون، وتفريج الكُرُباتِ، وإغاثة اللَّهفان، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عُبَّاد الأوثان يسألونها أوثانهم». اهـ(28).
ولا شك أن ما ذكره ابن القيم رحمه الله هو الواقع في كثير من البلدان الإسلامية.
فمن المنكرات قصْدُ زيارة القبور في أيام معيَّنة، كيوم عاشوراء، ويومَي العيد، ويوم الخميس، وما يسمونه (الطلعات) بعد الموت، فيَقصدونه في أوَّل خميسٍ وبعد الخامس عشر، ثم الأربعين، واعْلَم أنَّ الحديث الوارد في فضيلة زيارة القبور يوم الجمعة حديثٌ ضعيف لا يَصِح الاحتجاج به.
ومن المواسم المحدثة في زيارة القبور:
1- زيارة القبور في يومي العيدين:
فمن العادات السيئة تخصيص زيارة قبور بعض القرابات في الأعياد بحجة أن ذلك من باب البر، وزيارة المحبة لهم، وهذا من البدع المحدثة المحرمة (29).
2- زيارة القبور يوم عرفة، أو التعريف عند القبر:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فمن ذلك ما يُفعل يوم عرفة، مما لا أعلم بين المسلمين خلافًا في النهي عنه، وهو قصد قبر من يُحسَن به الظن يوم عرفة، والاجتماع العظيم عند قبره، كما يُفعل في بعض أرض المشرق والمغرب والتعريف هناك، كما يفعل بعرفات، فإن هذا نوع من الحج المبتدَع، الذي لم يشرعه الله، ومضاهاة للحج الذي شرعه الله، واتخاذ القبور أعيادا…».
وقال أيضا: وهذا محرم سواء كان بشد رحل، أو لم يكن، وسواء كان في يوم عرفة أو في غيره(30).
3- زيارة المقابر يوم عاشوراء (العاشر من شهر الله المحرم)، وهذا من البدع المحدثة في هذا اليوم (31).
4- زيارة المقابر في ليلة النصف من شعبان:
وقد ذكر بعض أهل العلم بعض ما يحصل في تلك الليلة من البدع التي أحدثها الناس عند القبور، وما يترتب عليها من المفاسد العظيمة(32).
5- زيارة القبور في وقت معين، مثل من يخصص يوم الجمعة للزيارة من كل أسبوع، بحجة أن الميت إذا لم يُزَر ليلة الجمعة بقِي خاطره منكسرًا بين الأموات، كما يزعم ذلك بعض المبتدِعة(33)، وهذه دَعْوى باطلة، ما أنزل الله بها من سلطان.
6- زيارة قبر الميت في اليوم السابع من دفنه؛ لأجل الترحم عليه، والدعاء له، وقال بذلك فقهاء المالكية(34)واستدلوا على ذلك بأثر عن طاوس قال: كانوا يستحبون ألا يتفرقوا عن الميت سبعة أيام؛ لأنهم يُفتنون ويحاسبون في قبورهم سبعة أيام، وهذا الأثر إن صح عن طاوس فلا حُجة فيه؛ لأن طاوسا يُستدل لِقوله، ولا يُستدل بقوله، ولو سلمنا بحجيته، فلا يدل ظاهر الأثر على مشروعية الزيارة في اليوم السابع.
وذهب بعض أهل العلم إلى منعه وكراهته، وهذا هو الصواب؛ لأن من أجاز ذلك لم يستند على حجة شرعية، وبناء على ذلك، فإن هذا لا أصل له، فيكون من البدع المحدثة.
7- مما أحدثه بعض الناس الذهاب صبيحة يوم الثاني من دفن الميت، وزيارة القبر، واجتماع أقاربه عنده، ومن غاب عن ذلك وجدوا عليه([35]).
هذه بعض المواسم والأعياد التي أحدثها بعض الناس لزيارة القبور، بغير دليل شرعي.
ونختم بفائدة فيما يتعلق بزيارة القبور والبناء عليها وتجصيصها من إملاءات سماحة الشيخ ابن باز([36]):
«لا شك أن موضوع زيارة القبور والبناء عليها وتجصيصها موضوع مهم، والناس في حاجة دائمة لبيان ما شرع الله في ذلك، وما نهى الله عنه، حتى يكون الناس على بصيرة، فإن القبور قد ابتُلي الناس فيها منذ قديم الزمان، من عهد نوح صلى الله عليه وسلم، فقد وقعت الفتنة بالموتى والغلو فيهم في زمن أول رسول أرسله الله عز وجل إلى أهل الأرض، بعدما وقع فيهم الشرك، وهو نوح عليه السلام، ثم لم يزل الناس يقع منهم ما يقع من الفتن في القبور والغلو فيها والشرك بأهلها إلى يومنا هذا.
فإن الناس كانوا قبل زمن نوح عليه الصلاة والسلام على الإسلام، من عهد آدم عليه السلام إلى زمن نوح عليه الصلاة والسلام عشرة قرون، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما([37])، ثم إن الناس وقعوا في الشرك بعد ذلك بسبب الغلو في خمسة من الصالحين ماتوا في زمن متقارب يقال لهم: وَدّ، وسُوَاع، ويَغُوث، ويَعُوق، ونَسْر، فعظُم عليهم ذلك واشتدت بهم المصيبة بموت هؤلاء الأخيار منهم، فجاءهم الشيطان وزين لهم أن يصوروا صورهم، وأن ينصِبوها في مجالسهم، وقال لهم: هذا تذكار تذكرونهم به في عِبادتهم وأحوالهم الطيِّبة حتى لا تنسَوْهُم، وتجتهدوا في العبادة كما اجتهدوا، فأتاهم من باب النصح، وقال بالتذكير بطاعة الله عز وجل، والخبيث له مقاصد أخرى فيما بعدُ، فيهم أو فيمن بعدهم في آخِر زمانهم وعند طول الأمد، فإنه اعتقد أن هؤلاء إذا طال بهم الأمد سوف تتغير حالهم، وسوف يتغير اعتقادهم بهذه الصور، أو من يأتي بعدهم من ذرياتهم، فوقع كما اعتقد الخبيث، وكما ظن، إذا طال الأمد عبدوهم من دون الله، أو عبدهم ذرياتهم من دون الله، كما ذكر العلماء ذلك رحمة الله عليهم، وأنزل الله فيهم قوله جل وعلا: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23].
بيَّن الله سبحانه أنهم أضلوا كثيرًا بسبب الشيطان وتزيينه لهم صور هؤلاء الخمسة الصالحين حتى عبدوهم من دون الله، فاستُغيث بهم، وعُظِّمت قبورهم، وبُني عليها، إلى غير ذلك، حتى بعث الله نبيه خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام فبيَّن للناس ما فعله من قبلهم، وما فعله اليهود والنصارى مع الأنبياء في هذا الصدد، فقال: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»([38])، وأخبرهم عما تفعله النصارى في شأن موتاها، كما في الحديث الذي روته أم حبيبة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قصة الكنيسة التي رأتاها في أرض الحبشة، فقال فيها عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكِ الصُّوَرَ، أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([39])، فبيَّن أن النصارى من عادتهم البناء على قبور صالحيهم، ووضْع الصُّوَر على تلك القبور، ثم أخبر أنهم شرار الخلق عند الله بسبب ذلك.
وشُرعت الزيارة للقبور لا للطواف بها والتبرك بها؛ وإنما شُرعت لتذكر الناس الآخرة، ولقاء الله، والزهد في الدنيا، وأن الموت لا بد منه، وأنه سوف يأتي عليه كما أتى على من قبله من الأموات، وفي الزيارة إحسان إلى الموتى بالدعاء لهم والترحم عليهم إذا كانوا مسلمين.
ولقد استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه فأذن له؛ لما في زيارتها من الاعتبار والذكرى للموت والآخرة، ولما استأذن في أن يستغفر لها لم يؤذن له([40])؛ لأنها ماتت على الجاهلية دين قومها؛ فدل ذلك على أن القبور إذا كانت قبور كفار أو من قبور أهل الجاهلية فإنه لا يُدعى لهم، ولا يُستغفر لهم، ولا يُسلم عليهم، وإنما تزار للذكرى والاعتبار، ولكن لا يسلم عليهم ولا يُدعى لهم؛ لأنهم ماتوا على غير دين الإسلام، وقد قال سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}[التوبة: 113].
فالسُّنَّة أن يقول الزائر إذا زار مقابر المسلمين: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، إِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَنَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ»([41])، وفي لفظ آخر: «يَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ»([42]).
وكان إذا زار القبور صلى الله عليه وسلم يدعو لهم ويستغفر لهم، ولما زار البقيع قال: «اللهُمَّ، اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ»([43])، وإذا زار الشهداء دعا لهم، وهذه هي السُّنَّة في زيارة القبور.
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور في أول الأمر؛ لما كان الناس حديثي عهد بالجاهلية والكفر، وقد كانوا اعتادوا الغُلُوَّ في الموتى ودعاءهم والاستغاثة بهم، فمنعهم صلى الله عليه وسلم عن الزيارة؛ لئلا يبقى في قلوبهم تعلُّق بالشرك بالله عز وجل، ولئلا تقع منهم أشياء لا ترضي الله؛ لأنهم حُدَثَاء عهد بعبادة القبور وتعظيمها.
ولما استقر التوحيد في قلوب المسلمين، وعَرَفوا معنى الشهادتين، وعرفوا شريعة الله، أَذِنَ لهم بزيارة القبور بعد ذلك؛ لِمَا فيها من المصلحة والتذكّر للآخرة، ولقاء الله عز وجل، والزهد في الدنيا، والاستعداد للموت، وأن ما أصاب هؤلاء الموتى سيصيبك، مع ما فيها من الإحسان إلى الموتى بالدعاء والاستغفار لهم.
وقد كانت القبور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تُرفع عن الأرض قدر شبر، وليس هناك بناء عليها ولا تجصيص ولا قباب، هكذا كان الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه والقرون المفضلة، ثم غير الناس بعد ذلك، وبنوا على القبور، وجصصوها وفرشوها تقليدًا لليهود والنصارى إلا مَن رحِم الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟!»متفق على صحته([44])، والمعنى: فمن المعني إلا أولئك، فلهذا وقع ما وقع، قلدوا اليهود والنصارى بالبناء على القبور واتخاذ المساجد عليها والقباب وفرشها حتى حدث الغُلو فيها، وحتى عبدها الناس من دون الله، وطافوا بها وطلبوا منها المدد من دون الله؛ فوقع الشرك من الأكثرين.
وكثير من العامة الذين لا بصيرة لهم يدعونها ويطلبون منها المدد والغوث وشفاء المرضى والنصر على الأعداء، وهذا هو الشرك بالله جل وعلا، قال تعالى في سورة فاطر: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر، 13، 14]، وهو ما وقع في الناس اليوم، فكثير منهم ممن يُعرفون بالشيعة وغيرهم يدعون الحُسَين بنَ عليٍّ، ويدعون الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا من مكان بعيد، ويدعون عليًّا رضي الله عنه، وكل هذا من الجهل العظيم، فيقولون: الغوث الغوث، المدد المدد، النصر على الأعداء، وأنت تعرف ما جرى في الأمة وما جرى فينا، فأسعفونا وأغيثونا وانصرونا، إلى غير ذلك، ينسون الله ويدعون هؤلاء الأموات، وإذا اشتدت الأمواج في البحار كذلك يسألون الموتى ويصرخون بهم لإنقاذهم من الغرق.
والمشركون الأولون أقل شركاً من هؤلاء، كان الأولون إذا نزلت بهم الشدة استغاثوا بالله وحده وأفردوا له العبادة، كما قال سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].
هذه حال الأولين من المشركين، كأبي جهل وأشباهه، أما هؤلاء المتأخرون – عُبَّاد القبور، عُبَّاد الأموات – فشركهم دائم في الرخاء والشدة جميعًا.
ومما وقع في الناس أيضاً الإيقاد عند الموتى في المقابر، وهذا لا أصل له، وما جاء فيه من الأخبار فهو موضوع لا أساس له، ولا أساس للقراءة على الموتى في المقابر، كل هذا باطل، كذلك القراءة عند دفن الميت.
وبعضهم أحدث بدعة أخرى، وهي بدعة الأذان والإقامة في القبر، إذا حفروه نزلوا فأذنوا وأقاموا فيه ثم جعلوا الميت فيه بعد ذلك، وهي بدعة جديدة لا أساس لها، وكذلك التلقين، تلقين الميت بعد إنزاله في القبر ودفنه بقولهم: يا فلان ابن فلانة، فإن لم تُعرف أمه قالوا: يا فلان ابن حواء، اذكر ما كنت عليه في الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، إلى آخره، وهذا لا أصل له.
والأخبار فيه موضوعة لا أساس لها، وإنما فعلها بعض أهل الشام بعد انقراض القرن الأول، وليس في قول أحد أو فعله حجة فيما يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما المشروع الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا فرغ الناس من دفن الميت أن يُدعى له بالتثبيت والمغفرة، والسنة للمشيعين ألا يعجلوا بالانصراف حتى يفرغ من دفن الميت؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ»([45])، يعني من الأجر، فدل على أن المشيع يبقى مع الجنازة حتى يفرغ من دفنها، وكان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ»([46])، هذه هي السنة، ولم يكن يلقنه، فالتلقين يكون قبل الموت ما دام حيًّا وظهرت عليه أمارات الموت، فإنه يُلقِّن بأن يقول: لا إله إلا الله، أو يذكرون الله عنده حتى يقولها ويختم له بها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ»([47])، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» رواه مسلم في صحيحه([48]).
وإذا لم ينتبه فلا بأس لمن عنده من إخوانه أن يقول: يا فلان، قل: لا إله إلا الله، برفق وكلام طيب.
وكذلك لا يجلس الإنسان على القبر، ولا يجوز الصلاة في المقبرة إلا صلاة الجنازة على القبر إذا لم يصل الإنسان على الميت، فلا بأس أن يصلي على القبر، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم([49])، وقد صلى على قبر مضى عليه شهر؛ فدل ذلك على أنه لا بأس أن يصلى على القبر بعد مضي شهر على دفنه، وإن مضى على الدفن أكثر من شهر فالواجب ترك ذلك، إلا أن تكون الزيادة يسيرة كاليوم واليومين؛ لأن العبادات توقيفية، لا يُشرع منها إلا ما شرعه الله سبحانه أو رسوله عليه الصلاة والسلام.
وهكذا لا تجوز الكتابة على القبور ولا البناء عليها ولا تجصيصها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فيما رواه مسلم في صحيحه وغيره، فعلى الجميع التعاون على البر والتقوى.
ونسأل الله عز وجل التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه».