في مقالها بجريدة «الشروق».. فندت رباب المهدي تلك المزاعم التي تصور المشير عبدالفتاح السيسي باعتبارها جمال عبدالناصر جديد..
بغض النظر عن الانتقادات الموضوعية حول الحقبة الناصرية إلا أن هناك حالة من الحنين والشجن لهذه الحقبة حتى بين قطاعات ممن لم يعاصروها (وربما كان هذا جزءا من رومانسيتها بالنسبة لهم). جزء كبير من شعبية المشير عبدالفتاح السيسى مرتبط عند البعض بتصويره وتصوره على أنه عبدالناصر الجديد، الزعيم القوى القادر على التصدى للقوى الغربية ووضع مصر فى مكانة دولية رائدة وتحقيق طفرة اقتصادية تتجلى ثمارها فى فرص عمل ومعاشات وأجور أعلى كل هذا تحت مظلة دولة قوية تعمل مؤسساتها الاقتصادية والثقافية والسياسية بكفاءة. ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فعبدالفتاح السيسى ليس عبدالناصر لأسباب ذاتية تتعلق بشخصه وأسباب موضوعية لها علاقة باللحظة التاريخية المختلفة.
لنبدأ بالأسباب الذاتية، عبدالناصر قرأ جان جاك روسو وفيكتور هوجو وحفظ شعر شوقى وحافظ وكتب عن فولتير، وهو فى المدرسة الثانوية، شارك وأصيب فى مظاهرات الطلبة ومر على التنظيمات السياسية من أول مصر الفتاة وحتى الإخوان المسلمين، أما المشير السيسى فلا يعرف عنه أى اهتمام بالثقافة أو الأدب ولم يكن له نشاط سياسى من أى نوع (بحكم وجوده فى الجيش ولا حتى قبلها)، لا أعرف ماذا قرأ الرجل بالضرورة ولكنه بالتأكيد لا ينعكس على خطابه العام ومفرداته والرؤى التى يطرحها سواء فى حواراته الصحفية أو فى خطبه الذى يعتمد فيها على أداء عاطفى بالغ الرومانسية أكثر من تقديمه أى مضمون فكرى أو عملى. أما الفرق الأهم فهو أن عبدالناصر قام بثورة 23 يوليو، وهو فى الرابعة والثلاثين من عمره وبرتبة بكباشى (مقدم) لم يستطع التأقلم مع فساد النظام والتدرج فى مناصبه حتى يصل لرتبة فريق كما هى حال المشير السيسى الذى وصل أن ترأس المخابرات الحربية تحت نظام مبارك.
•••
أما الأسباب الموضوعية التى لن تجعل السيسى خليفة جمال عبدالناصر كما يتصور البعض، فمؤشراتها واضحة على صعيدى الرؤية الاقتصادية والاستقلال الوطنى، وهما العاملان الأساسيان فى بلورة الالتفاف الشعبى حول الناصرية. ففى حين أن رؤية عبدالناصر قامت على ما يسمى التنمية المستقلة وتوزيع الثروة عن طريق الإصلاح الزراعى والتأميم فإن رؤية المشير السيسى كما جاءت فى حواره لجريدة السياسة الكويتية تقوم على «تسويق» مصر لـ«جذب» مزيد من أموال الخليج وكأنها شقة مفروشة تنتظر سائحيها العرب فى الصيف. أما فيما يخص مسألة الاستقلال الوطنى والتى تم الترويج لها منذ 30 يونيو، وكأن المشير السيسى يتصدى للهيمنة الأمريكية، وهو جيفارا العصر ضد القوى الاستعمارية وحلفائها الرجعيون، فأدعوك عزيزى القارئ لمراجعة حواره مع جريدة الواشنطون بوست بتاريخ 3 أغسطس 2013 والذى قال فيه إنه كان على تشاور دائم مع الإدارة الأمريكية وطلب النصح والمعاونة وأنها حليف استراتيجى، بالإضافة للدعم المستمر الذى يتلقاه من أنظمة مجلس التعاون الخليجى وبعضها هو الأكثر رجعية فى العالم بامتياز وموقفه من الثورة ومن التغيير كفكرة ودعمهم السابق لشخص مبارك ونظامه واضح وضوح الشمس. مثل هذه الأنظمة هى التى ناصبت عبدالناصر العداء، ولم تكن الداعم الرئيسى له كما هو الحال الآن.
عبدالناصر جاء فى وقت انتعاشه اقتصادية عالمية وفى خضم الحرب الباردة فطرح رؤية مواتية لهذه الظروف العالمية ولظروف المنطقة فى نفس الوقت كانت هذه الرؤية تحدث قطيعة كاملة مع النظام الذى سبقها (بغض النظر عن تقييمنا للتجربة بأثر رجعى). أما المشير السيسى فبدأ من دعم فلول النظام السابق له وليس انتهاء بزيارته لروسيا وتصويرها وكأننا مازلنا فى الخمسينيات، لم يعكس أى تحرك أو حوار له إدراكا لتغير اللحظة وأنه يمتلك رؤية استراتيجية مغايرة عن الكلام المرسل المطروح منذ زمن (حول فشل الحكام وإمكانات مصر المهدرة ووحدة الشعب) ولا مؤشر على قطيعة مع النظام الذى ثار عليه المصريون قبل ثلاثة أعوام.
•••
أخيرا، فإن التجربة الناصرية على الرغم من إنجازها بشكل مؤقت لحراك اجتماعى، عن طريق مجانية التعليم والطفرة الاقتصادية عن طريق التصنيع وإعادة توزيع الثروة وإسهامها فى حركة التحرر الوطنى فى العالم العربى والدول النامية فإن منجزاتها كانت وقتية؛ فكانت هزيمة 1967 ثم تدهور الاقتصاد وانهيار نظام التعليم.. إلخ. لم يكن هذا التراجع سببه فقط حكام أتوا بعد ناصر ولكن سببه الرئيسى كان أن أى منجزات كانت هبة من الحاكم الذى صادر المجال العام ودجن الشعب وراء القائد الفرد فسهل بيئة الفساد واستلاب ما كان من إنجازات. وحتى فى أوج هذه التجربة فإن ثمنها الباهظ الذى ملأ السجون والمعتقلات لا يمكن التغاضى عنه مرة أخرى.